انطوت الأحرف، تناقصت الأقطار، ونُفِضَ الغُبار عن أمكنة قد هُجرت عُقودًا، تقهقرت المسافات تباعًا من حولنا، لانت ملامح الأقدار، وتوارى الهجر خلف رداء اللقاء الأول، رجفة لم أُلقي لها بالًا، ضباب لطيف غطّى الأنحاء، وومضات تتابع في السراب أظنها من ابتسامة ثغرها.
_قُلت لكِ قبلًا: أنني جُبت العالم بحثًا عن ترياق كعينيكِ، وقُلتِ: فلتطلبه!
أنا الآن على أعتاب يداكِ مسيرًا، قد سُلبت حق الاختيار، فَدُليني.
_طلتكِ البهية من حُسنها غطت على إدراكي للبحر، وهذا ما لم يحدث من قبل، تطايُر ردائكِ ومحاولتكِ المتكررة في هندمته، تعرج مشيتكِ كأنكِ حديثة الخطى، إلتفاتك بحثًا عني، وأخيرًا هدوء ملامحكِ عند الالتقاء الأول، رغم أنني أعلم زيف الهدوء.
_عندما تقدمنا، أحسست العالم يعبر حولنا، وأنتِ مركز الرؤية، كل شيء يحيطنا، وأنتِ وحدكِ تحيطيني.
تباطؤ في مرور السحب، كل شيء بطيء، عدى إفتتاني بكِ، كأني لم أعرفكِ يومًا، كأنه التعارف الأول، وليس اللقاء الحسّي.
كنت فتًا أعيش بالكثير من اللامبالاة، لا يسترعي دهشتي المعتاد، ولا يجذبني المتعارف عليه، حتى جئتي مُحملة ببساطة الكون في خصالكِ، وفِطرة حواء في وجنتيكِ، ونُضجكِ الكاذب، وطفولتكِ الجَلية، لم أظن يومًا أن كبريائي ينحني ليلتقط الرضا من عينيكِ، كبريائي الذي دهس قلوب الكثيرات، ولم يكترث لأيادٍ ناعمة ممتدة، تفوح منها طِيبُ الرغبة، وجُذِبَ لراحتيكِ الصغيرتان، ودواء عثر عليه بين جنبات أحرفكِ، رغم غُربته، ألِفَكِ.
_معهن، كنت أشعر أن هناك شيء غير مُكتمل، فهذه الجميلة الفاتنة، التي يحسدني الكثيرون عليها، وهذه الجريئة، وتلك الثرية، دائمًا ما كان المنظور ناقصًا، هناك ضِلع مفقود، ضماداتهن لا تسع جروحي الغائرة، والفجوة كانت تتسع برغم وثوقهن بأنهن الأقرب، كان هناك موضع فارغ بين ثنايا صدري، ينتظركِ.
_كنتُ أتخذ الكتابة خليلة لسويعاتي المبتورة، وعلاقاتي الآثمة، وأحاسيسي التي لا يسعني التلفظ بها، حتى عبرتي أمام أوراقي فجأة، فاحتَجَ الحبر، وتطايرت الأسطر من عقلي، وحُصرت الكلمات بين بعضكِ، فما عادت عادتي الوحيدة، كانت التالية بعد مراقبتكِ.
توددت الرمال، وتهافت النسيم، ورذاذ المطر الذي أضفى على محيانا ضحكات متتالية، مازلتِ تتعثرين بمشيتكِ، ومازلت أتعثر بكِ.
_تُرى هل أُعلن انهزامي على مَقرُبَةٍ من شرفات قلبكِ!
أم أن العالم لا يسمح، لمن هو مثلي، بمن هو مثلكِ!
ليس لأني شيطان وأنتِ ريح ملائكية.. لكنني مذنب يتوق إلى إشهار توبته أمامكِ، وأنا لم أختركِ، بل مُنِحتُكِ.
سذاجتكِ الطفولية دومًا كنت أظنها تصنعًا، ارتباكُكِ كان يُخيل إليَّ أنه إحدى حيل جذبي، لكن من الواضح هنا، أنني أنجذب بفعل فجوة في أيسري تتوق للإمتلاء بكِ، ورغم ذلك لا أُخفي عليكِ سرًا، كل الشاشات كاذبة ومُضللة لذوات الأشخاص، ولكن كل القواعد الآن باستثنائكِ.
_ثم تنبهت إلى المشهد، أنا وأنتِ، وصدفات البحر ضالة مثلي، واصلت التحديق بكِ وأنتِ تتبينين ملامح وجهي، وتعلو ملامحكِ دهشة ولهفة ومشاعر سَهلة الوصول، مثلكِ تمامًا.
تقاربنا رويدًا، وعَلَت أصوات الموج تتهامس، اثنان سَتُخلق الدواوين لأجلهما، ويُكتب أنه كان هناك فتى يجول العالم ليهرب منها بحثًا عن كبريائه المبعثر، ووَضُح أنه كان يسير بين أضلعها.
-مصطفى شرباش